من سوهارتو إلى موبوتو: الوجه السفلي للعلاقات الدولية
هو خبر لن تتجاوزه الأحداث لأن مغزاه يظل ماثلا أمامنا إذا كنا نريد فهم أبعاد الجانب السفلي في العلاقات الدولية. جانب لن تكشف عنه مطلقا البيانات الدولية المنمقة عن الحرية والعدالة والتنمية وحقوق الإنسان. الخبر هو وفاة الجنرال سوهارتو في 27/1/2008 وهو الذي حكم أندونيسيا بقبضة حديدية طوال 32 سنة، مع أن الذي أزاحه عن السلطة في النهاية كان صندوق النقد الدولي.
سوهارتو كان خرج لتوه فائزا من انتخابات يفترض بنتيجتها أن برلمان أندونيسيا اختاره لولاية رئاسية سابعة. مع ذلك رفع مسؤولو صندوق النقد الدولي صوتهم معترضين على استمراره في السلطة. ومع أن سوهارتو فهم في حينه مغزى الاعتراض إلا أنه قام بمقامرته الأخيرة فوافق على كل طلبات الصندوق. وفي صورة شهيرة سجلتها له الكاميرات في سنة 1998 رأينا سوهارتو جالساً إلى مائدة مستطيلة يوقع أوراقا وإلى جواره يقف مدير صندوق النقد الدولي مبتسما ابتسامة الفوز.
وكانت تلك من المرات النادرة التي يكشف فيها صندوق النقد الدولي عن دوره الفاعل إلى هذا المدى في مصير دولة بكاملها، حيث يحرص الصندوق دائما (ومعه البنك الدولي) على الابتعاد عن الأضواء كلما أمكن، بل ويشترط على الحكومات التي يتعامل معها أن تتبنى هي طلباته وتقدمها لمواطنيها على أنها سياسات وبرامج من بنات أفكارها.
لم يكن الجنرال سوهارتو في اندونيسيا استثناء عن القاعدة. فنموذجه متكرر في الحياة الدولية على امتداد قارات العالم. فلنبدأ مثلا بمثال تشيلي وهي تلك الدولة الصغيرة في أميركا اللاتينية. ففي 4 أيلول (سبتمبر) 1970 انتخب الشعب التشيلي سلفادور الليندي رئيسا له بطريقة ديموقراطية شهد لها الجميع في حينه ولم تستطع الولايات المتحدة إنكارها رغم تأففها من توجهات الليندي اليسارية حسب منظورها. وعلاجا للفقر في بلاده وسعياً إلى تنمية موارد البلاد بدل استيلاء الأجانب عليها انطلق الليندي في برنامج متتابع لتأميم مناجم النحاس والحديد والملاحات والبنوك الأجنبية التي كانت احتكارات أميركية.
ولم يكن الليندي غافلا عن المعارضة الأميركية لسياساته، لكنه تحصن بشعبيته لينطلق في سياساته الاقتصادية. وذات يوم خرج هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي ليقول أمام الكاميرات: «لا أستطيع أن أفهم لماذا علينا أن نقف جانبا ونراقب بلدا - مثل تشيلي - يتحول إلى الشيوعية بسبب لامسؤولية شعبه نفسه. الأمور على درجة من الأهمية للناخبين التشيليين أكبر من أن يجري تركهم ليقرروا شأنها بأنفسهم».
الإشارة كانت واضحة والمغزى أوضح. فللشركات الأميركية الكبرى مصالح عاتية في كل دول أميركا اللاتينية. وإذا سمحت أميركا لنموذج تشيلي بالنجاح فستنتقل العدوى حتما إلى باقي دول المنطقة.
والنتيجة: انقلاب دموي كاسح قام به الجنرال أغوستو بينوشيه بدعم حاسم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تكشفت حقائقه في ما بعد. ونظرا للدعم الشعبي الكاسح للرئيس الشرعي الليندي فقد استخدم بينوشيه الدبابات والطائرات لقصف كل مؤيدي النظام، بما في ذلك هدم قصر الرئاسة فوق الرئيس.
لكن التظاهرات الشعبية الغاضبة تجددت مطالبة بعودة الديموقراطية ووقف النهب الأجنبي لموارد تشيلي، وفي مواجهتها يتكرر القمع ويتصاعد، إلى أن اضطر بينوشيه أولا إلى التخلي عن الرئاسة في 1994 مكتفيا بقيادة الجيش، لكنه اضطر ثانيا في آذار (مارس) 1998 للتنحي عن قيادة الجيش ليصبح سيناتورا مدى الحياة.
وفي أيلول 1998 توجه إلى لندن للعلاج ليفاجأ بطلب إسباني من الحكومة البريطانية بتسليمه إليها للمثول أمام القضاء لمحاكمته عن جرائم قتل واغتيال كان ارتكبها ضد مواطنين يحملون الجنسية الإسبانية. وخرجت مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء السابقة تحث الحكومة البريطانية على رفض الطلب الإسباني بحجة أن بينوشيه يتمتع بحصانة كرئيس سابق تمنع تسليمه أو محاكمته.
بعد احتجازه في لندن 503 أيام سمح لبينوشيه بالعودة الآمنة إلى تشيلي بحجة الأسباب الإنسانية. لكن هناك أيضا كان في انتظاره أهالي الضحايا. وزاد على ذلك الكشف عن أدلة ثابتة عن قيامه بتهريب أموال طائلة ليحتفظ بها في حسابات سرية في بنوك أجنبية عديدة طوال سنوات حكمه. باقي القصة معروف، بما في ذلك وفاته في 2006. لكن ما بقي معلقا قبل وبعد وفاته هو: كيف تستعيد تشيلي تلك الأموال الطائلة التي هربها بينوشيه إلى الخارج وما هي الأطراف الدولية التي كانت تحميه في اختلاسه للأموال العامة مقابل حمايته لها في نهبها لموارد شعب تشيلي؟
المثال نفسه نجده في حالة دولة إفريقية هذه المرة هي الكونغو.مساحة الكونغو تبلغ مرتين ونصف مساحة مصر مثلا، ولأن تلك المساحة تختزن في أرضها أكبر مخزون في العالم من النحاس والماس فضلاً عن كونها المنتج الأول في العالم لمادة الكوبالت زائداً الزنك والفضة والقصدير والمنغنيز وبعض تلك المواد مهم للغاية للصناعات العسكرية، فلم يكن لوحوش الغابة الدولية أن يمرروا استقلال الكونغو بسلام أو يسمحوا أن تعود تلك الثروات المنهوبة إلى أصحابها. فجرى خطف واغتيال رئيس وزرائها بياتريس لومومبا ثم جرى اغتيال داغ همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة نفسه بإسقاط طائرته وهو في الطريق إلى الكونغو. وبمزيج من المصالح الدولية وتجنيد مرتزقة دوليين وتوجيه ومشاركة أجهزة استخبارات أميركية وأوروبية - حسب الوثائق التي كشف عنها في ما بعد - وحمامات دم تابعها العالم في حينه، أصبح للشركات الأجنبية المعنية رجلها الحاكم الجديد في الكونغو وهو موبوتو سيسي سيكو.
لم يضيِّع الرجل الجديد وقتا فأعاد الاحتكارات الأجنبية إلى سطوتها لتعود المعادلة نفسها مرة أخرى: اللصوص الكبار ينهبون ثروات الكونغو، واللص الصغير الحاكم يواجه كل تمرد داخلي بالمزيد من القمع. ولمساعدته في القمع احتشدت القوى السفلية نفسها في الحياة الدولية كالعادة. وفي عام 1977 مثلاً قامت طائرات فرنسية بنقل قوات مغربية إلى الكونغو لمواجهة انتفاضة جديدة مدعومة بخبراء أرسلهم أنور السادات من مصر.
في العام التالي أرسلت فرنسا وبلجيكا مباشرة قوات لمواجهة انتفاضة جديدة. وفي العام التالي وصل مظليون من بلجيكا لمساعدة موبوتو من جديد، وهكذا، حتى نجح لوران كابيلا في إزاحته عن السلطة في 1997 فهرب إلى المغرب إلى أن توفي هناك. ومرة أخرى أصبح السؤال المتكرر هو: هل تستطيع الكونغو استعادة بلايين الدولارات التي هربها موبوتو إلى الخارج طوال سنوات حكمه؟ والسؤال الآخر: هل تفصح تلك البنوك الغربية التي احتفظ فيها موبوتو بحساباته وأرصدته السرية عن المبالغ الحقيقية لتلك البلايين المهربة؟
هذا يعيدنا إلى الجنرال سوهارتو وأندونيسيا. لقد وصل سوهارتو إلى السلطة على مرحلتين: في المرحلة الأولى قام بإقناع الرئيس أحمد سوكارنو بطل استقلال أندونيسيا عن الاستعمار الهولندي بأنه لا بد من حمايته من انقلاب ضده يخطط له الشيوعيون في سنة 1965. وتحت هذا العنوان قام بمجزرة بشرية كبرى تتفق التقديرات على أنه قتل خلالها مليون مواطن أندونيسي، فضلا عن كشوف بأسماء محددة طلبت منه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التخلص منها كما تبين لاحقا. وفي المرحلة الثانية قام بإجبار سوكارنو نفسه، بلطف ولكن بحزم، على التنحي عن السلطة.
بموازاة ذلك، قاد سوهارتو سياسة لبيع الاحتكارات الكبرى في الاقتصاد الأندونيسي المملوكة للدولة إلى الأجانب، بحجة أنها شاخت، وأن بيعها هو أقصر الطرق لإغراء المستثمرين بالقدوم إلى أندونيسيا. وحتى يقمع سوهارتو المعارضة الشعبية المتوقعة كان لا بد من أجهزة جديدة متطورة للقمع، يقودها جهازان للاستخبارات والأمن. بعدها جرى فرض الرقابة الصارمة على الصحف واعتبار «إهانة الرئيس» بالقول أو الفعل جريمة كبرى عقوبتها السجن.
أصبح النهب الأجنبي لثروات أندونيسيا في ذروته، وبموازاته النهب المنظم الذي مارسه سوهارتو نفسه لحسابه هو وأسرته. لقد أعطى لزوجته مثلا احتكارا باسم الدولة لاستيراد القمح وطحنه. وأعطى لابنه احتكار تجارة الثوم. وأعطى لابنته السيطرة على إيرادات الرسوم المحصلة على الطرق السريعة. وأعطى لابن آخر ترخيص تليفونات المحمول. أيضا حصل أبناؤه الستة وأخوه غير الشقيق وحتى أحفاده على تراخيص مجانية تمكنهم من نهب المزيد. وأصبح سوهارتو سادس أغنى زعيم في العالم. وقدرت منظمة الشفافية الدولية أن ثروته مع عائلته تتراوح ما بين 15 و35 بليون دولار. أما مجلة «تايم» الأميركية فقررت أن ثروته بمفرده تبلغ 15 بليون دولار بينما ثروة أسرته على امتداد 32 سنة من حكمه بلغت 73 بليون دولار.
وطوال سنوات الحرب الباردة كانت لأميركا أسبابها الخاصة لإبهار المنطقة اصطناعيا بنجاح اقتصاد السوق. لكن مع نهاية الحرب الباردة تغيرت الدوافع وتبخرت الأوهام. وهكذا عصفت الأزمة المالية الكبرى في سنتي 1997/1998 بأندونيسيا وكل تلك المنطقة من آسيا، فانهارت عملاتها الوطنية بلدا بعد الآخر بعد أن كان صندوق النقد الدولي استدرجها للأخذ بمشورته.
وهكذا بين ليلة وضحاها انهار اقتصاد اندونيسيا وعدد من دول المنطقة، وخرجت الملايين الغاضبة إلى الشوارع بعد أن جرى بيع ما تبقى من مشروعات وشركات إلى الأجانب. وأصبح التضخم كاسحا والديون فلكية. وحاول سوهارتو استرضاء صندوق النقد الدولي من جديد بأن فرض المزيد والمزيد من إجراءات التقشف. لكن مسؤولي الصندوق، وعلى غير عادتهم، خرجوا يصرحون علنا باستحالة استقرار الاقتصاد الأندونيسي مع وجود سوهارتو في السلطة رغم أن مؤيديه في البرلمان كانوا انتخبوه لولاية رئاسية سابعة. في هذه المرة أصر صندوق النقد الدولي على رحيل سوهارتو. وقبيل رحيله أصبح عليه أن يذعن للصفقة البالغة الإجحاف التي قررها الصندوق. وخرجت تلك الصورة الشهيرة لسوهارتو وهو يوقع على الاتفاق جالسا بينما مدير صندوق النقد الدولي واقف إلى جواره مزهوا ومنتشيا. بعدها اضطر سوهارتو في 21/5/1998 للاستقالة فتولى نائبه حبيبي الرئاسة بعده لفترة موقتة حتى إجراء انتخابات.
بعد سقوط سوهارتو، وفي صيف 1998، رصدت وزارة الخزانة الأميركية بعض تحويلات مريبة لمبالغ ضخمة تصل إلى تسعة بلايين دولار، مطلوب نقلها من بنوك أميركية إلى بنك في النمسا. كانت تلك جزءا صغيرا من البلايين التي نهبها سوهارتو واحتفظ بها في بنوك أميركية وأوروبية. بالطبع أوقفت الحكومة الأميركية التحويلات ليصبح مصيرها كمصير الأموال التي نهبها بينوشيه في تشيلي وموبوتو في الكونغو وأيضا شاه إيران خلال سنوات حكمه لتصادرها أميركا منذ سقوطه وحتى الآن·
هم يرحلون لكن الشعوب تبقى وتدفع الثمن.